أحداث 08 ماي 1945

إن لنا من أيامنا ما ناءت به صحائف التاريخ ، ولكن تاريخنا يأبى إلا أن يكون حافلا بغرر الأيام وجليل الأحداث ونحن شعب يجيد كتابة التاريخ لأننا نصيغه بدمائنا وبأرواحنا وبنضالنا المرير ، فعاد شهر ماي وللجزائر مع هذا الشهر قصص شاء الله أن تجتمع كلها وتنصب فيه ويقف التاريخ أكثر من مرة في هذا الشهر يقف أول مرة في أوله عندما يحتفل عمال العالم بعيدهم ويقف مرة ثانية يسجل شعبنا الأبي ذكرى المذبحة الشهيرة التي راح ضحيتها خمسة وأربعون ألف شخص ، ثم يقف مرة ثالثة عندما يحي شعبنا ذكرى وفاة الأمير عبد القادر بطل المقاومة الجزائرية المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي كما يقف مرة رابعة عندما نتذكر تكوين اللجنة الدولية لنصرة الجزائر التي انضمت إليها أكبر اتحادات أوربا والكتلة الشرقية وكذلك أسبوع التضامن العالمي لنصرة الجزائر الذي تبناه اتحاد عمال المانيا الشرقية آنذاك ، وهناك أحداث كثيرة شهدها هذا الشهر العظيم لا يسع لنا المجال بأن نستعرضها كلها مع أننا نكتفي بالشيء القليل والمتواضع الذي ذكرناه ، ونولي اهتمامنا لذكرى المذبحة الشهيرة والتي نعني بها أحداث 08 ماي 1945 المؤلمة .ففي هذا اليوم من كل سنة تحتفل مدن سطيف،قالمة ،خراطة والجزائر قاطبة ، بهذه الانتفاضة العارمة التي شهدت مذبحة بشعة ارتكبها الاستعماريون الفرنسيون في بلادنا وضد شعبنا راح ضحيتها ما يناهز الـ 45 ألف شهيد ،ونحن في هذه الذكرى يجدر بنا أن نقف بإجلال وخشوع ترحما على أرواحهم التي ضحوا بها، وهم مؤمنون أن تضحياتهم لن تذهب سدى وفعلا كانت هذه التضحيات بمثابة صحوة وطنية لشعبنا ، إذ تأكد له مرة أخرى أن لا حرية ولا استقلال إلا بالعمل المسلح ،فبعد أن قدم الشعب الجزائري الآلاف من أبنائه كوقود للحرب العالمية الثانية ضد النازية وقد أدى أبناء الجزائر كغيرهم من أبناء المستعمرات الفرنسية هذه المهمة مستبسلين في الكفاح ضد النازية والفاشية ظنا منهم أن المستعمر سيترك لشعوبهم تقرير مسيرهم ، وسقطت النازية فعلا بعد استسلامها النهائي في 07 ماي 1945، وعلى إثرها خرجت شعوب العالم في مظاهرات معبرة عن فرحتها وابتهاجها بعد 7 سنوات من الخراب والدمار وظن الشعب الجزائري أن الوقت قد حان لأخذ حقوقه فخرج هو الآخر صبيحة يوم 08 ماي 1945 في مظاهرات سلمية .
حمل فيها الشعارات التي مهدت الطريق نحو انتصار “العالم الحر” والحرية وتقرير المصير الحر ونيل الحريات الأساسية وحقوق الانسان ، ولم تكد المسيرة تسير حتى تصدى لها الفرنسيون بدعوى أن المتظاهرين كانوا يرفعون علما جزائريا وقد سل محافظ البوليس الفرنسي مسدسه وقتل شابا صغيرا كان يتقدم الموكب رافعا بكلتا يديه علم الجزائر وسقط على الأرض وهو ينادي “تحيا الجزائر” هكذا بدأت المذبحة واشتد حماس المتظاهرين بعد قتل رافع العلم واستمر المتظاهرون وهم ينادون بالحرية وسقوط فرنسا ، ومن وراء جدران الثكنات العسكرية ومن فوق شرفات وأسطح المنازل كانت المؤامرة الجبانة تتأهب للقيام بمجزرة بشرية رهيبة ، أبطالها ” أشياري ، كاربونيل ، آبو ، فروجي …” من غلاة الاستعماريين العنصريين .
فقد احتشد البوليس والجنود والمرتزقة والمعمرون وتفرقوا على السواحل متسلحين ومستعدين لهذا اليوم الرهيب ، كما اجتمعوا على طول الجبهة الممتدة من سطيف إلى خراطة ومن سطيف أيضا إلى قالمة ، فانطلقت النيران تحسد المتظاهرين حصدا وقامت الطائرات المقنبلة الاستعمارية بإتمام عمليات الحصد والتدمير ، وتمكنت من إبادة 45 ألف مواطن مسالم من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال من الجزائريين ، لتختتم هذه الحملة بقتل وحرق الجرحى بعد جمعهم بالعشرات ورشهم بالبنزين في حظائر بيع الحيوانات المسورة بالحديد ، وبقر بطون الحوامل على رهان زجاجة من نبيذ على نوع الجنين ذكرا أم أنثى ، وانتهاك الحرمات بطريقة لا يمكن وصفها ، وإلقاء بالشيوخ الكبار من الطائرات وهي في الجو ، و مهاجمة المنازل للقبض على الشبان المثقفين والمتهمين بالنشاط السياسي ثم يذهبون بهم إلى خارج المدينة ويأمرونهم تحت تهديد الرشاشات أن يحفروا قبورهم الجماعية بأيديهم ويقتلونهم الفوج بعد الفوج ، على أن يقوم كل فوج بدفن إخوانه الذين قتلوا قبله ، كما رشت آلاف الجثث بالجير حتى لا تؤذي رائحتها أبطال المؤامرة الأوروبيين وتركها لأسابيع على أرصفة الشوارع وفي الطرقات العامة (لتكون عبرة) لمن بقي حيا من الجزائريين ، ولتكون مسرة للسادة المستعمرين .
أي بشاعة هذه إنما فاقت بشاعة النازية والفاشية خاصة إذا ارتكبت من طرف من لا يزال إلى يومنا هذا يندد بالنازية ويتوعد بالانتقام ويتغنى بمثل الحرية والعدالة هذه الأحداث المأسوية كانت صدمة نفسية مروعة للشعب الجزائري ، حيث أصيبت النفوس بالذهول وخيبة الأمل ولكنها من جهة أخرى كانت بداية اليقين لدى شعبنا بأن الحرية لا ترد إلا بلغة النار والحديد مثلما سلبت بلغة النار والحديد وهي اللغة الوحيدة والأسلوب الأوحد الذي يفهمه الاستعمار ومن ثمة فإن الطريق الشاقة لابد أن تبدأ من منعرج 08 ماي 1945 لتأخذ خطا مستقيما حتى بلوغ الهدف وبذلك بدأت البوادر تلوح في سماء الجزائر المناضلة مع بداية سنة 1947 حيث أسست المنظمة السرية وهي مؤسسة تعنى بالتحضير للعمل المسلّح تتبنى العنف لافتكاك الحريّة ، ولكن سرعان ما تمكن المستعمر من اكتشاف عملها فحاول القضاء عليها ، وبعدها جاءت اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي لها الفضل الكثير في تحضير الجو العام لأكبر ثورة معاصرة ، إنها ثورة نوفمبر المجيدة بأبطالها وقادتها ، حيث كانت ثورة شعبية في صميمها قادها أبناء هذا الشعب واحتضنها الشعب وكان يوم النصر والاستقلال ألذ ثمرات جهاد شعب روى بدمائه وبدموعه هذه الأرض الطيبة ، فيا شهداءنا الأبرار يا جنود الأمس ، ناموا آمنين مطمئنين في رحاب الخلود فلقد أينعت ثماركم وزكا غرسكم وترعرع الوطن الذي اغتالتكم سلاسله يوم 08 ماي حطم أغلاله وقيوده ، وهو في هذا اليوم عملاق يحث الخطى نحو الغد الأفضل ، والعدو الذي صب عليكم بالأمس في مثل هذا اليوم نيران حقده وغضبه أخرج من هذه الديار مهزوما مدحورا يجرر أذيال الخيبة ويعلق جراحه المثخنة انتقاما لدمكم الطاهر الزكي الذي سقى شجرة الحرية المباركة هذه التي نتفيأ اليوم ظلالها معترفين لكم بالفضل ، إن أكاليل الزهور التي نضعها اليوم على تماثيلكم لن تفيكم حقكم الكبير وان الحبر الذي يسيل في مثل هذه المناسبة تمجيدا لبطولتكم ووطنيتكم لا يساوي شيئا إذا قيس بجانب المعنى الكبير لبطولتكم ، إن اسمكم أسمى أغنية على كل لسان ، وشجاعتكم أسطورة دخلت صفحات التاريخ النضالي وسجلت فيه بأحرف من نور ، فلتناموا آمنين مطمئنين ، وسلام عليكم يوم آمنتم بحق هذا الوطن في الحرية والاستقلال ، فوهبتم أرواحكم الغالية فداءه ، ويوم استهنتم بكل قوة العدو فواجهتموها بصدوركم لتحطموا خرافة عظمة فرنسا الزائفة .
فرحم الله شهداءنا الأبرار.