كشك التحرير

ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط

قلم كتابة

لـ”بالتحرير”:

بودرع ياسر من قسنطينة

تميز الشرق الأوسط لعقود طويلة من الزمن بكونه أكثر مناطق العالم سخونة و توترا بما شهدته المنطقة من أحداث تاريخية و تحولات دراماتيكية و حروب أثرت على ميزان القوى في العالم ، و آخر هذه الأحداث المهمة ما عرف بثورات الربيع العربي التي كانت ثورات مفاجئة بعيدة عن التوقع إضافة إلى التقارب الغربي الإيراني، و هي أحداث خلقت واقعا جديدا في المنطقة سيفرض على جميع الدول ترتيبات جديدة تبدو قادرة على تغيير مواقع القوى و مراكزها  في منطقة الشرق الأوسط و العالم.

صرح “علي خامنئي” قبل أيام قليلة في ذكرى رحيل “الخميني” “أن لإيران كلمة الفصل في المنطقة معتبرا أنها استطاعت أن تقف في وجه أمريكا و القوى المتغطرسة التي تقف إلى جانبها” . إن تصريح خامنئي يمكن أن يعطينا فكرة عن حجم التقدم الكبير الذي حققته إيران خلال السنوات  الماضية إذ تعتبر أكبر مستفيد في الشرق الأوسط  من حيث المكاسب السياسية و الاستراتيجية ، خاصة بعد إبرامها اتفاقا مبدئيا مع الغرب حول برنامجها النووي، و مؤخرا خاطب وزير الخارجية الأمريكية “جون كيري” إيران داعيا إياها إلى بدل جهد في حل الأزمة السورية و هذا اعتراف من رأس هرم الدبلوماسية الأمريكية بالدور المحوري الذي تلعبه إيران في سوريا و المنطقة ، و قد نجحت إيران في خلق تقاطع بين مصالحها و مصالح الغرب الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة ازدادت مع ارتفاع أسعار النفط فأمريكا تشهد عجزا في الموازنة إضافة إلى مشاكلها المتعلقة بالرعاية الصحية و البنية التحتية و تشهد دول منطقة اليورو هي الأخرى تعثرا اقتصاديا  و لا شك أن التهدئة مع إيران و السير نحوى إبرام اتفاق نهائي معها سيدفع بالتأكيد نحو انخفاض أسعار النفط وهو أمر مناسب تماما للولايات المتحدة الأمريكية و حلفائها من الدول الصناعية ، و يأمل الإيرانيون بدورهم في الوصول إلى اتفاق مع الغرب حتى يتسنى لهم بيع مزيد من النفط ما من شأنه أن يمنحهم العملة الصعبة و يساعدهم على تصحيح وضع اقتصادهم بعد أن عانوا كثيرا من آثار الحصار و العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهم منذ 35 سنة  ما جعلهم يعيشون ضغطا خارجيا و داخليا كبيرا .

إن الاتفاق المبدئي بين الغرب و إيران ما هو إلا إبطاء لبرنامجها النووي و تأخير عملية تخصيب اليورانيوم  مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية ، ومن الخطأ أن يعتقد البعض أن هذا الاتفاق يعني بداية  تنازل إيران عن برنامجها النووي فمع وجود “خامنئي” و المتشددين لهذا المشروع فإن البرنامج مستمر و ما يقوم به “روحاني” لا يخرج عن التكتيكات التي اعتادت الدبلوماسية الإيرانية القيام بها. و رغم تهديدات “ناتنياهو” باستخدام القوة لردع إيران فالواقع يشير إلى صعوبة دخول إسرائيل في حرب معها و بالتالي ليس أمامها سوى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تجد أفضل من الحل الدبلوماسي و تستبعدإدارتها الخيار العسكري ضد إيران ، حتى لو فشلت المفاوضات الدبلوماسية ستعود في رأيي إلى العقوبات الاقتصادية لأن الأمريكيين غير واثقين من العواقب في حالة توجيه أي ضربة عسكرية لإيران رغم أن الأخيرة غير قادرة نظريا على مواجهة الأسطول الأمريكي مباشرة  في الخليج  في حال تلقيها ضربة عسكرية لكن يمكنها الرد بطرق غير مباشرة من شأنها أن تجعل الأمور خارج السيطرة كليا ، فمن المرجح أن تستعين إيران بدراعها العسكري حزب الله لضرب إسرائيل من الحدود اللبنانية ومن غير المستبعد أيضا أن تسقط بعض من الصواريخ الإيرانية على أجزاء من المملكة العربية السعودية و بالنسبة لأمريكا هذه عواقب محتملة لا يمكن احتوائها لو حصلت .

و في ضل هذا الاتفاق الوشيك بين إيران و الغرب و جدت دول الخليج نفسها أكثر عرضة للخطر الإيراني لأن رفع العقوبات عن إيران من شأنه أن يسهل طريقها لتحقيق مشروعها بالمنطقة و المشكلة بالنسبة للدول الخليجية و على رأسها السعودية أنها بنت سياساتها طوال السنوات الماضية معتمدة على الضربة العسكرية الأمريكية لإيران.

  و وفق مبدأ لكل فعل رد فعل، مساو له بالقوة ومضاد له في الاتجاه ، لم تجد السعودية من حل سوى تشكيل حلف خليجي جديد أو ما أطلق عليه البعض “محور السعودية مصر البحرين الإمارات” إضافة إلى “الأردن” و هو تحالف يهدف إلى مواجهة إيران إذ أن السعودية مازالت لا تستبعد حدوث مواجهة عسكرية معها، و ترى في مصر “السيسي” كقوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها مستقبلا في حال وقوع تلك المواجهة  كما فعلت السعودية سابقا بدعمها صدام حسين في حرب الخليج الأولى و هذا ما يفسر الدعم الكبير الذي يقدمه العاهل السعودي لرئيس مصر الجديد سياسيا و ماليا حيث دعا بقية الدول للمساعدة في إقامة مشروع اقتصادي يحقق نهضة مصر أسوة بمشروع مارشال الأمريكي الذي نهض بأوروبا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، و تدرك السعودية جيدا أنه لا يمكن الاعتماد على مصر بوضعها الحالي و أن الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الخانقة قد تؤدي إلى إعادة تكرار سيناريو ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام مبارك  الشيء الذي تعمل السعودية على عدم السماح بتكراره ،  فدول الخليج أصلا لم تكن تريد أي تغيير في مصر على عكس موقفها من الثورة الليبية حيث لم تتوانى في تفويض الناتو للإطاحة بنظام القذافي مستبعدة أن تمتد تلك الثورة إلى مصر، و تبقى الحرب أمرا مستبعدا لكنها دائما احتمال وارد الحدوث أيضا ، خاصة أن دول الخليج و على رأسها السعودية  تتحمل ضغطا هائلا بسبب هذه التغيرات و منزعجة من مواصلة إيران تحقيق مكاسب استراتيجية في المنطقة و تدخلها في العراق و البحرين و اليمن و لبنان و سوريا، كما ينبع القلق السعودي الحقيقي من احتمال حصول إيران على قدرات نووية مستقبلا ما من شأنه إحداث صدع مباشر في نمط التوازن الاستراتيجي بالمنطقة ، لكن ذلك لم يمنع بعض الدول الخليجية من محاولة تخفيف التوتر مع إيران و البعث برسائل تحمل التهدئة و تهدف لتحقيق التقارب بين الجيران السنة و الشيعة كما حصل في زيارة أمير الكويت التاريخية لإيران حيث استقبله الرئيس” روحاني” قبل أيام، وحاولت مصر أيضا مد جسر مع إيران عندما وجهت لها دعوة لحضور مراسم تنصيب “السيسي” رئيسا جديدا لدولة مصر فكانت إيران ممثلة بمساعد وزير خارجيتها و هو في الحقيقة تمثيل دبلوماسي يعبر عن حذر إيراني كبير تجاه محاولة التقارب المصري ، إذ يبدو أنها غير مستعدة للمخاطرة بتحالفها مع تركيا التي تشهد علاقتها بمصر توترا كبيرا كما أن إيران لم تعرف بعد وجهة نظر القيادة الجديدة في مصر حول الأزمة السورية.

إن التحالف الخليجي الجديد الذي يبدو أن مصر تلعب فيه دورا كبيرا يهدف أيضا إلى مواجهة تيار الإخوان داخل مصر و الخليج ، وعزل  الدول التي تدعمهم كقطر و تركيا و هما دولتان تحاولان لعب أدوار فاعلة في المنطقة و يمكن تصنيفهما كمحور في حد ذاته تميز بدعمه للثورات العربية و إخوان مصر و هو ما جعل السعودية و البحرين و الإمارات تسحب سفرائها من الدوحة في مارس الماضي كرد فعل قوي يعبر عن الرفض الشديد للسياسة القطرية في المنطقة ، كما خاطب النظام المصري أكثر من مرة قطر و تركيا بعدم التدخل في شؤون مصر الداخلية ، و يلاحظ أيضا أن مصر لم توجه الدعوة لكلتا الدولتين لحضور حفل تنصيب “عبد الفتاح السيسي” رئيسا لمصر و هذا يعطينا فكرة واضحة عن حجم الخلاف بين التحالف الخليجي الجديد من جهة و المحور التركي القطري من جهة أخرى.

و في سياق متصل بالترتيبات الجديدة في الشرق الأوسط نجد تقاربا روسيا مصريا يعيد إلى الأذهان فترة الحرب الباردة و سياسة ملء الفراغ حين حدث تقارب تاريخي بين الدولتين سنة 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، و يحظى النظام الجديد في مصر  بدعم كبير من موسكو حيث تلوح في الأفق صفقات سلاح كبيرة بين البلدين ، و إذا كان النظام الجديد في مصر يعتمد على روسيا في كسب مزيد من الشرعية باعتبارها قوة عظمى فان الروس وجدو ضالتهم في مصر استراتيجيا إذ يرونها فرصة كبيرة للحصول على دور أكبر في الشرق الأوسط و مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الاعب الرئيسي في المنطقة منذ عقود ، ومن الواضح أن أمريكا قد أحست بالخطأ الاستراتيجي الذي قامت به حين جمدت بعضا من المساعدات الموجهة لمصر بعد الإطاحة بالرئيس المعزول “مرسي” ما جعلها تتجه نحوى روسيا الأمر الذي قد يضعف من تأثير ضغط المساعدات الأمريكية عليها، وأي تراجع للنفوذ الأمريكي في مصر سيؤثر على نفوذها في كل المنطقة و ذلك سيكون في غير مصلحة إسرائيل أيضا في ظل جمود يميز عملية السلام مع الجانب الفلسطيني بحيث فشلت المساعي الأمريكية في اقناع الإسرائيليين بقبول دولة فلسطينية عند حدود 1967 في وقت تستمر فيه حكومة “نتنياهو” في سياسة بناء المستوطنات .

تعتبر الأزمة السورية هي الأخرى نقطة محورية و جوهرية فيما يحدث اليوم من تغييرات في الشرق الأوسط إذ امتدت آثارها إلى كل المنطقة ، و استمرار الأزمة ينذر بتحول سوريا إلى صومال جديد فتزايد أعداد اللاجئين السوريين شكل عبئا كبيرا على دول الجوار خاصة الأردن و لبنان فهما ليستا بقدرة تركيا مثلا على تحمل هذه الأعباء ، كما ظهر خطر الجماعات المسلحة و انتشار السلاح  مما يهدد استقرار المنطقة وهذا يمثل ضربة موجعة للولايات المتحدة الأمريكية و التي رفعت شعار الحرب على الإرهاب و الجماعات المسلحة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 خاصة بعد أن نجح تنظيم “داعش” في السيطرة على الموصل بالعراق و مناطق أخرى منها إلى جانب عشائر وضباط الجيش العراقي السابق ، و من أكبر الأسباب التي أطالت عمر الأزمة السورية  كونها مبنية وفق معادلة صفرية بين النظام و المعارضة من جهة و أمريكا و روسيا من جهة أخرى، و يمكن القول دون تردد أن الإدارة الأمريكية لم تكن على صواب في قراءتها للأزمة السورية منذ البداية إذ توقعت سقوط نظام الأسد كما حدث مع باقي الأنظمة التي شهدت ثورات الربيع العربي و لهذا لم تعطي واشنطن منذ البداية الأولوية للحل السياسي الدبلوماسي ، و يعتبر استمرار نظام الأسد في سوريا انتصارا حققه الروس على الأمريكيين لأن الأسد يعتبر من أكبر حلفائهم في المنطقة و هذا ما جعلهم يستخدمون الفيتو ثلاث مرات ضد فرض عقوبات على نظامه ، و من جهة أخرى يمكن تفسير دعم الصين لنظام الأسد في مجلس الأمن على أنه مسايرة لروسيا و إيران نظرا لمصالحها المتعلقة بالطاقة و احتياجاتها المتزايدة للنفط و الغاز و فعلا تم إبرام صفقة مهمة في ماي من هذه السنة تقضي باستيراد الصين كميات كبيرة من الغاز الروسي لمدة 30 عاما بقيمة إجمالية تصل إلى 400 مليار دولار .

المستجدات الأخيرة جعلت الجميع يتأكدون من شيء واحد و هو أن لا شيء مؤكد ، فالصورة ضبابية حول ما يمكن أن يفرزه هذا الحراك المتسارع للأحداث في منطقة الشرق الأوسط من نتائج ستكون لها انعكاسات بالتأكيد على السياسة الدولية ككل ، لكن هذا الواقع المبهم لا ينفي وجود حقيقة ثابتة مفادها أن الدول العربية تستمر في التفكك و أن جيوشها تُنهك و تنهار الجيش تلو الآخر ، ما يجعل صوت أنصار نظرية المؤامرة يرتفع عاليا ليقول أن الأمر برمته يدخل في إطار تجسيد مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بدأته الإدارة الأمريكية منذ وقت طويل و كانت أولى خطواته احتلال العراق و تدمير جيشه سنة 2003.

زر الذهاب إلى الأعلى