حتى لا تكون فتنة مقومات الدراما الرساليّة

يتذكر، أغلبنا، ذلك السجال الفقهي الذي صاحب إنتاج وعرض فلم الرسالة، وكيف استطاع المخرج انتزاع الموافقة النهائية من مرجعيات السنة والشيعة، على رغم اختلاف الفقه بينهما. وبرز السجال في أعمال إيرانية عن النبيّ يوسف والنبي سليمان…ومؤخرا سجال ليس بالأخير حول مسلسل عمر…
لقد انحصر النقاش والجدل حول الأعمال الفنية في الجانب الفقهي الجاف، وهو جانب يطرح السؤال الخطأ، ويطلب جوابا صائبا… ينطلق من قاعدة: هل فعل الرسول ذلك؟؟ وهي قاعدة حق أسيء استخدامها. فما كلّ ما لم يفعله الرسول ممنوعا ولا محرّما… ولا يمكن له أن يفعل كلّ شيء… والأصل في الأشياء الإباحة…
وقد تفكّرت مدّة في الموضوع، فوجدت أن العلماء، في عالمنا الإسلامي، ينظرون إلى الفنّ باعتباره منافسا للتديّن، ومعاد له… ولم يفكروا في إمكانية الاستفادة من الفنون في تدعيم التدين نفسه… عدا أن يفتشوا عن الفن والدراما لدى الأنبياء والرسل أنفسهم… من خلال مشاهد دعوتهم التوحيدية مع أقوامهم، وكيف سردها القرآن علينا في عدّة مواضع..
لو تأمل الفقهاء في القرآن لوجدوا أن المجال الفني من دراما وركح ومشاريع الفرجة موجودة ومذكورة بل هي من صنع الأنبياء…فنوح عليه السلام، كان يمتلك ركحا واقعيا حسيا عبارة عن ورشة لصنع الفلك، في بيئة لا تتطلب الإبحار… فكان عنوان الركح ومضمونه، عنصرا عجائبيا يثير الفضول، ويستهوي القلوب والأبصار… وكان يحاكي مثالا روحيا برزخيا، انطبع وانتقش في ذهنه، لا يحيد عنه…
والنبي إبراهيم عليه السلام، لما أراد أن يدعو قومه ويقيم عليهم الحجة في إطار دعوته العلنية العمومية، بادر بإبداع ركح فرجوي يستطيع من خلاله تمرير مضامين التوحيد التي ينادي بها، فاختار آخر أيام العيد، زمانا، واختار المعبد، ركحا مكانيا، واختار شخوص العمل الدرامي الذي أقدم عليه: الأصنام التي جعلها جذاذا، ولم يترك إلا صنما صامتا…. فكان هو الممثل الوحيد المتحرك على الركح والفاعل في المعبد.. وراوح الجمهور مكانه بين الركح وقاعة العرض… وكانت الاستجابة عالية جدّا للعرض الصادم الذي قدّمه، على حين غفلة، من غير موعد سابق… لكن الكهنة انتكسوا وقرروا نصرة سردية بابل وكونها الأسطوري.
والنبي موسى عليه السلام، في إطار تحديه للفرعون، اختار يوم الزينة موعدا للفعل الدرامي، وهو يوم فرجة تقليدي غير إسلامي، لكنه حوله إلى ركح صنع فيه فعل التوحيد وانشأ فيه تقاليد إسلامية جديدة… كان هناك ركح السحرة وركح فرعون، فأنشأ موسى ركح النبوة وغلبهم بفعله الدرامي التوحيدي، واستوعب ركح السحرة وتجاوزه، وظل الحوار الدرامي بين الركح الفرعوني والركح الموسوي حتى لحظة الغرق…
والرسول عليه السلام، لما أمره الله بدعوة العشيرة الأقربين، صنع لهم ركحا يتمثل في وليمة طعام… ولما وجد أن الزمن غير مناسب لإلقاء نصه التوحيدي… أرجأ العمل وأعاد الوليمة /الركح ليقتنص اللحظة الحقيقية التي أراد… فكان مشهدا فرجويا لعشيرته…
لو قام فقهاؤنا وكتابنا باستثمار البعد الفني المسرحي الفرجوي في القرآن لتصالحوا مع الدراما ولأنشؤوا دراما قرآنية تستجيب للمتطلبات المعرفية والعرفانية الإسلامية.
ولعلّ أهمّ ما يميّز الدراما الرسالية، أنها:
أولا: نابعة من مثال عال، تقع محاكاته من قبل الأنبياء والأولياء، بفعل التنزيل إلى الحسّ، وهو ما عبّر عنه يوسف عليه السلام: بالتأويل… هذا تأويل رؤياي…
ثانيا: أن هذه المحاكاة/التأويل، مصدرها الوحي، جنس معرفي خارج القدرة البشرية… ويتضمن كل المبادئ الأخلاقية السامية…
ثالثا: أن القرآن سجّل الدراما الرسالية لهؤلاء الأنبياء، ووثقها بمختلف عناصرها الفنية، وخلّد لحظتها وموضوعها وهدفها وأبطالها.
رابعا: أنه من خلال إيقاع الحرف القرآني، يمكننا اكتشاف موسيقى العرض الرسالي، وبنيته الصوتية.
خامسا: أن أبطال العرض الدرامي، كانوا يبحثون عن الزمان المناسب، الذي يستهدف أكبر عدد من الجمهور، من أجل قلب السحر الأسطوري المنتشر في النفوس، إلى توحيد خالص لله.
سادسا: أن الاستجابة التامة والواعية تكون في اللحظة الواقع فيها العرض… على أن تقع الانتكاسة فيما بعد…
إن هذه الملاحظات الأولية، يمكن دراستها والتوسع فيها من قبل المختصين والمهتمين بالدراما والأعمال الفنية… بل واجب على المتدينين انتهاج النموذج الرسالي، وإيلاء العرض الدرامي ما يستحقه من استلهام ومدد معرفي وعرفاني.
بقلم: محمد الصالح الضاوي
كاتب ومفكر تونسي مقيم بالجزائر
dhaoui66@gmail.com